ذات يوم ذهبت لزيارة صديق لي وعندما أخذنا نتبادل الحديث قال لي والسأم يقتله :
هل تعرف ما هو الجحيم ؟
قلت له : لا .
قال : هو أن تعاشر من لا تحبهم ... وتصادف من لا تستريح إليهم ... وتعمل بين من لا يفهموك ... وتشعر كل يوم بأنك عاجز عن تحقيق ما تريده لنفسك ... وما تؤمن به وتعتقده !
قلت له : وكيف يستطيع الإنسان أن يحتمل حياة من هذا النوع ؟
قال : العجيب أن الكثيرين منا يعيشون تماما مثل هذه الحياة في مجملها أو في بعض صورها , ويحتملونها كأنه قدر مكتوب عليهم أو كأنهم يُنفذون حكماً قضائياً صادرا ضدهم من محكمة الحياة , ولا يفكرون أبداً في استئناف هذا الحكم وفى تغيير حياتهم والبحث عن حلول ملائمة لما يشتكون منه .
قلت : وماذا تتوقع منهم أن يقوموا بفعله ؟
قال : أن يكفوا عن الشكوى مما يُنغص عليهم حياتهم ... وأن يستثمروا الطاقة التي يبددونها في الأنين في البحث عن حلول لما يُعانون منه من مشكلات ... فالشباب في الخارج لا يهدر عمره في الشكوى والتبرم بالحياة ... وإنما يتحركون لتغيير الواقع الخاص الذي يضيقون به ... فمن لا يجد سعادته في حياته الخاصة يبحث عنها في حياة جديدة ... ومن لا يجد نفسه بين أصدقائه يبحث عنها بين أصدقاء آخرين أكثر فهماً له , ومن لا يجد نفسه في عمله يبحث عنها في عمل جديد فإن عجز عن إيجاده حاول أن يتواءم مع عمله وأن يحبه وأن يكتشف فيه جوانب جديدة يمكن أن تحقق طموحه وذاته , بل إن من يجد الطريق أمامه مسدوداً في مكان ما في الأرض فعليه أن لا يهدر عمره فيه وإنما يغادره غير نادم إلى مكان آخر وحياة أخرى... حتى أصبحت هذه العبارة الغريبة على أسماعنا " حياة جديدة " عبارة شائعة على ألسنة الشباب والكهول بل والشيوخ أيضاً , فمن لا ترضيه حياته يقول لنفسه وللآخرين دائما سأبدأ حياة جديدة ثم يتحرك بالفعل ليبدأ هذه الحياة وليس ذلك مقصوراً أبداً على الشباب , فحتى بعد سن المعاش يقول الإنسان لنفسه سأبدأ حياة جديدة أتمتع بما لم تتح سنوات الكفاح والعمل اكتشافه والتمتع به .... وهكذا يعيش الإنسان حياته أكثر من مرة ويستمتع بكل مرحلة من مراحلها .
قلت : أما نحن ؟
قال : نحن مشدودون دائماً إلى واقعنا الذي نشكو منه بحبال رفيعة من الصلب الرفيع .
نشكو من حياتنا ولا نحاول أبداً أن نتواءم معها أو نغيرها إذا يئسنا منها .
ونشكو من أصدقائنا ثم نذهب إليهم لنجتر معهم السأم والملل ويعيش كل منا في وحده الداخلية وهو بين أصدقائه ! ونشكو من عملنا ولا نحاول أبداً أن نتكيف معه أو نكتشف فيه ما يستهوينا ويطلق إبداعنا أو نغيره ونبحث عن مستقبلنا وأنفسنا في مجالات جديدة .
إنها رحلة عذاب نكرر فيها كل يوم أسطورة سيزيف الذي غضبت عليه آلهة الإغريق فحكمت عليه أن يحمل فوق صدره صخرة كبيرة ويصعد بها إلى قمة الجبل , وكلما وصل إلى القمة ألقت الآلهة الصخرة إلى السفح ليحملها من جديد إلى القمة .. وطوال العمر !
إن كلاً منا يحمل مثل هذه الصخرة فوق صدره ... ولا يفكر أبدا في إلقائها بعيداً عنه ... فمتى يلقى كل منا بصخرته عن صدره ... ومتى يأتي هذا اليوم ؟
تفكرت في كلامه طويلاً ... وبحثت عن إجابة تهدئ خواطره فوجدت نفسي أجيبه :
سيأتي هذا اليوم بالتأكيد يا أخي ... وعلينا ألا نفقد الأمل فيه أبدا وإلا استحالت الحياة , نعم فإن الإنسان لهو أعظم أعجوبة في العالم كما قال ذلك منذ قرون الشاعر الإغريقي الأعمى سوفوكليس , وإرادته هي التي تصنع الحياة , وهو قادر دائما على تحقيق المعجزات حين يريد وحين يتحرك من الجمود وحين يخرج من دائرة الشكوى والأنين إلى دائرة الحركة والعمل .
فلقد انهزم الديناصور في معركة التطور , فانقرض واندثر في حين انتصر الإنسان على الطبيعة فبقىِ وتواصل مع أن عضلاته ليست أقوى من عضلات الديناصور , لكن عقله .. روحه وإرادته هي الأقوى , فعاش الإنسان ومات الديناصور وسوف يعيش الإنسان دائما وسوف يتغلب على كل الصعاب التي تواجهه لأنه مذود بقوة عجيبة من قِبل الخالق الأعظم " جل في علاه " فأنني أرفض وبشدة مذهب الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كان يقول :
إن الإنسان أصلا مخلوق معذب وأن الحياة ليست سوى تعاقب الألم والفراغ وتعاقب الرغبة والسأم , ولكنني من المعجبين كثيرا بكلمة الفيلسوف الفرنسي ريتوفيه الذي عاش حياة خصبة طويلة وملأ المجلدات بأفكاره وآرائه ثم قال وهو في الثامنة والثمانين من عمره " سأترك الدنيا قبل أن أقول كلمتي النهائية ... لأن الإنسان يموت دائما قبل أن يتم عمله ... وهذا أشد أحزان الحياة إثارة للشجن "
هذه هي النظرة التي أؤمن بها في الحياة والتي أعجب بها .
إن على كل إنسان أن يقول كلمته حتى اللحظة الأخيرة وألا يفقد حماسه أبداً لتحقيق ما يريده لنفسه وما يؤمن به من أراء وأفكار وليس ضروريا أن يحقق النجاح الذي يصبو إليه لكنه من الأهمية بمكان أن يسعى وأن يقول لنفسه إذا عجز عن تحقيق آماله " لقد حاولت " نعم أخي فإن الخطأ ليس أن نعيش حياة لا نرضاها لكن الخطأ بعينه هو ألا نحاول تغييرها إلى الأفضل دائماً , فإذا قصرت الإمكانات عن الامانى فزنا على الأقل بشرف المحاولة الذي يدفعنا للرضا التام عن أنفسنا لأننا لم نقصر في حق الحياة ولا في حق أنفسنا , كما أنني لا أشك أبداً يا أخي في أن هذا اليوم الذي تحلم به سوف يأتي وسوف يتحقق ............